أخبار
رحلة إلى متحف ناغاساكي للأدب
بمناسبة مرور قرن على ميلاد الكاتب الشهير إندو شوساكو، قررت القيام برحلة إلى متحف ناغاساكي للاحتفال بإرثه الأدبي. إن إندو شوساكو، الذي وُلد في عام 1923 وتوفي في عام 1996، يُعتبر واحدًا من أعظم كتّاب اليابان وصوتًا بارزًا في الأدب العالمي.
تألق إندو شوساكو بتأليفه لروايته الشهيرة ”الصمت“ التي نُشرت في عام 1966. تتناول الرواية قضايا ذات صلة بالإيمان، والدين، وتلاقي الثقافات الشرقية والغربية. حققت هذه الرواية نجاحًا هائلًا على الصعيدين الوطني والدولي، وتم ترجمتها إلى 13 لغة، مما جعلها تترك أثرًا عميقًا في الأدب العالمي.
رحلتي إلى متحف ناغاساكي تعتبر زيارة لأرض مقدسة لمحبي إندو شوساكو ومعجبي أعماله. سأكتشف في المتحف تفاصيل حياته ورحلته الإبداعية، وسأستمتع بفهم أعماق روحه وتأملاته حول الإيمان والحضارة.
إن تأريخ ناغاساكي كموقع للمتحف يعزز القيمة التاريخية للزيارة، خاصةً في سياق الحرب العالمية الثانية والتأثير الكبير الذي تركها على مجتمعات العالم. سأتعرف على الثقافة والتاريخ المحليين، مع إلقاء نظرة على مكان يعتبره مسيحيون تم كبت إيمانهم فيه خلال فترات تاريخية صعبة.
تلك الرحلة تعد فرصة لفهم الروح الفنية والدينية التي تجسدها أعمال إندو شوساكو، وقدرته على ربط الثقافات المختلفة من خلال كتاباته الفذة.
أرض مقدسة لمسيحيين كتموا ايمانهم
بدأت رحلتي بالحافلة من محطة ناغاساكي باتجاه ساكورا نو ساتو، ومن هناك ركبت حافلة أخرى متوجهة إلى أوسيتو إيتانورا. وبعد قطع مسافة طويلة على طريق صخري لمدة 80 دقيقة، وصلت إلى الساحل المطل على المحيط اللامتناهي. وكانت وجهتي إلى إندو شوساكو بونغاكو كان ”متحف إندو شوساكو للأدب“ المتربع فوق صخور مطلة على المحيط.
قبل كل شيء وجب الاشارة إلى أن هذه المياه لها تسمية خاصة في اللغة اليابانية حيث يطلق عليها إسم ”سوتومي“ أي البحار الخارجية. وقد كانت هذه المنطقة الساحلية التي تقع شمال غرب مدينة ناغاساكي تحمل اسم سوتومي حتى عام 2005، ثم تم ضمها إدارياً إلى مدينة ناغاساكي. ويوجد بهذه المنطقة حي شيستو، وحي أونو وهما مقران للمسيحية السرية بمنطقة ناغاساكي، كما يعتبران مواقعاً من التراث العالمي لليونسكو. جدير بالذكر ان القرية القريبة من المكان والمعروفة باسم كوروساكي كانت هي المكان الرئيسي لرواية إندو شوساكو الأكثر شهرة والتي تحمل إسم ”تشينموكو“ والتي ترجمت من طرف ويليام جونستون وحملت عنوان ”الصمت“.
بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد إيندو هذا العام، والمتزامنة مع مرور خمس سنوات على إدراج المنطقة ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو، قررت خوض تجربة البحث عن خفايا قصة المسيحيين السريين في المكان. وقد اخترت متحف الأدب كنقطة انطلاق لرحلتي هذه باعتبار ما يتوفر عليه من معروضات عن الكاتب إندو شوساكو وروايته الصمت.
أفكار ولدت بالمستشفى
ولد إندو شوساكو في 27 مارس/ آذار 1923 في سوغامو بطوكيو ”منطقة توشيما حالياً“. أمضى إندو طفولته المبكرة في منشوريا الصينية والتي كانت وقتها تحت السيطرة اليابانية، وتم تعميده هناك عندما بلغ سن 11 سنة من العمر ليصبح كاثوليكيا هو وأخوه وأطلق عليه اسم بول.
درس إندو الأدب الفرنسي بجامعة كيو، ثم حصل على فرصة الابتعاث، وكان من بين أوائل الطلاب اليابانيين الذين درسوا في الخارج بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قضى ثلاث سنوات في جامعة ليون بفرنسا. بدأ ظهوره لأول مرة كمؤلف لمجموعة من المقالات حملت عنوان فورانسو نو دايغاكوسي ”طالب جامعي في فرنسا“، وتبع سلسلة مقالاته هذه برواية ”الرجل الأبيض“ والتي فاز من خلالها بجائزة أكوتاغاوا عام 1955.
موهبته في الكتابة ساعدته على ولوج الأوساط الأدبية حتى اصبح كاتباً مرموقاً، تزوج بأوكادا جونكو والتي كانت تدرس بنفس الجامعة، واتصفت حياتهما بالهدوء والاستقرار. لكن حياته الوردية هذه كسر استقرارها إصابته بالسل بفرنسا في سن 38. مرضه هذا جعله يخضع لمجموعة من التدخلات الجراحية على مستوى الرئتين وأقعدته في المستشفى مدة عامين لإكمال رحلة التعافي. وخلال فترة تواجده بالمستشفى قام بكتابة مقاله المطول عام 1992 (شينموكو نو كوي) أي صوت الصمت.
خلال تواجدي في المستشفى، كنت أقضي الكثير من الوقت في التأمل في أفكار عديدة. نظرًا لأنني قد تمممت معموديتي في سن مبكرة وتأثرت بالدين المسيحي، كان من الطبيعي أن تتجه أفكاري نحو الشعب الياباني الذي يتبنى هذا الدين الغربي، وجيلهم اللاحق. أردت أن أستكشف هذه الفكرة من خلال دراسة تجربة المسيحيين اليابانيين خلال فترة الممالك المتحاربة (1467-1568)، لذلك اشتريت كتبًا لدراستها أثناء فترة تعافيي في المستشفى. ومع ذلك، في تلك اللحظة، لم يكن لدي نية لكتابة رواية حول هذا الموضوع. بعد شفائي، كانت أولى أفكاري حول أين أستطيع أن أتوجه للتمتع بتجربة سفر إلى مكان مشرق. لذا قررت الانطلاق إلى ناغاساكي بهدف استكشاف بعض المعالم السياحية الخفيفة والاستمتاع برحلتي.
لقاء غير متوقع
في أحد أيام الصيف قرر إيندو زيارة كنيسة أورا وقت غروب الشمس، وبحكم أن المكان يعتبر نقطة سياحية هامة قرر سلوك طريق جانبي لتجنب الحشود. الأمر الذي جعله يتقاطع مع مبنى مشيد على الطراز الغربي يحمل إسم جوروكوبان أي رقم ستة عشر، فقرر استكشافه من الداخل. هذه المغامرة غير المخطط لها ساهمت في تغيير حياته بشكل كبير بسبب لوحة معدنية عثر عليها داخل هذا المبنى.
وكانت هذه اللوحة البرونزية المؤطرة بالخشب تحمل نقشا يعرف باسم بييتا، والتي تصور المشهد الشهير للعذراء مريم وهي تحمل جثمان اليسوع بعد أن تم إنزاله من فوق الصليب. وكانت هذه اللوحة تحمل آثاراً بارزة للأقدام، حيث تم إجبار الناس على الدوس عليها. وأطلق على هذه اللوحة إسم فومي أي ”لوحة للدهس بالأقدام“.
اهتمام إندو بهذه اللوحة لم يزد إلا بعد مغادرته ناغاساكي والعودة إلى طوكيو.
ليكتب النص التالي ضمن روايته الشهيرة ”صوت الصمت“
في الحقيقة لم تغادر تلك الصورة مخيلتي بعد تلك الزيارة، فقد كانت تراودني أسئلة كثيرة عنها أثناء عملي أو تجوالي في المدينة. فقد كنت أتساءل حول طبيعة أولئك الناس الذين أجبروا على الدوس على تلك اللوحة، وعن مشاعرهم في تلك اللحظة وهم يدنسون معتقداتهم قسراً. فبحكم معايشتي لفترة الحرب فقد كنت شاهداً على الكثير من الحالات أين اضطر فيها الكثير من الناس إلى ترك معتقداتهم حفاظاً على حياتهم. فالإكراه الجسدي وما تعرض له البعض من أذى مادي ونفسي جعلهم يتخلون بسهولة عن معتقداتهم، هذه التفاصيل المؤلمة هي التي جعلتني أفكر في وضع أولئك الذين أجبروا على دهس اللوحة بأقدامهم، بل وأصبح التفكير في قصتهم أمراً ضرورياً ومهماً بالنسبة لي.
الشهداء والمرتدين: القوة والضعف
يمكن الحديث عن فئة الثابتين الذين تمسكوا بمعتقداتهم رغم كل أنواع الاضطهاد والتعذيب الذي تعرضوا له، بل وفقدوا حياتهم كنتيجة لعدم التخلي عما يؤمنون به. وهم من يطلق عليهم اسم الشهداء ويعتبرون أقوياء جداً.
في حين كان إندو يكن مشاعر الإعجاب والإجلال تجاه تلك الفئة من الأقوياء الصامدين، كان مهتماً أيضاً بالفئة الأخرى من المرتدين أو الضعفاء الذين استسلموا بعد ما تعرضوا له من ويلات التعذيب الذي مورس عليهم في عصر نظام الحكم العسكري الذي كان يسمى الشوغون. فأخذ يفكر في المشاعر المختلطة لهؤلاء المرتدين وهم يدهسون لوحة تحمل صورتي المسيح ومريم العذراء، وعما كانوا يكنوه لأشخاص الذين لم يستسلموا ولم يتخلوا عن معتقداتهم حتى لو كان الثمن حياتهم، هل شعروا بالامتنان أم الحسد أم تجاوز الأمر ذلك ووصل إلى كراهية القوة التي مكنتهم من الصمود في وجه كل ما تعرضوا له.
لا توجد سجلات في الكنيسة بشأن هؤلاء الأشخاص الذين، بسبب ضعفهم، تخلوا عن إيمانهم ولم يستشهدوا. وعلى الرغم من وجود سجلات للمؤمنين الأقوياء الذين حافظوا على الإيمان، إلا أن الكنيسة في ذلك الوقت تجاهلت في الغالب مصير ”التفاحات الفاسدة“ التي استسلمت.
وهذا ما دفع إندو إلى النبش وراء قصص هذه الفئة من المرتدين، الذين تقابل الكنيسة وضعهم بالتحفظ، بل وتجاوزت ذلك وقامت بمحو سيرتهم من التاريخ. شعور إندو بالمسؤولية كروائي جعله يقرر نفض الغبار عن قصصهم وبعث الصمت المخيم على ما حدث معهم من أجل نقل مشاعرهم المكبوتة.
بدأت رحلة إندو بمقابلة الأب هيوبرت سيسليك والذي كان يشغل منصب محاضر في جامعة صوفيا بطكويو وكان باحثاً رائداً في قضية المسيحيين الأوائل في اليابان. ثم إنتظم بعدها إندو في حضور محاضرات هذا الأب الأسبوعية، وخلص في النهاية وبعد جهد إلى اكتشاف وجود سجلات تاريخية لأربعة أشخاص من المرتدين تم الاحتفاظ بأرشيفهم، وهذا ما جعله يتوجه إلى ناغاساكي للبحث عن قرب عن خفايا قصص هؤلاء الأشخاص وذلك ما قاده إلى شخصية فيريرا.
وبالنسبة للشخصية الأكثر أهمية في بحث إندو نجد كريستوفاو فيري والذي كان كاهنا يسوعياً من البرتغال، تم إرساله إلى اليابان في حملات تبشيرية بعد قرار حظر المسيحية على مستوى اليابان عام 1614، حيث تعرض للاعتقال عام 1633، وارتد عن المسيحية بسبب ما تعرض له من ويلات التعذيب التي كانت بأوامر من القائد إنوي مساشيغي حاكم مقاطعة تشيكوغو. وقام بعدها بتغيير اسمه إلى ساوانو تشوان، وعمل كمترجم رسمي إبان الحكم العسكري للشوغون، ولم يقتصر التغيير الذي طرأ عليه على الردة عن المسيحية فقط، بل تعاون مع المحققين أثناء عمليات التحقيق مع المبشرين المسيحيين الذين تم القبض عليهم وعمل على إقناعهم على ترك المسيحية.
الموت أو الردة
بعد القبض على فيريرا وصلت انباء استسلامه بسبب ويلات التعذيب الذي تعرض له إلى ديار الكنيستين الرومانيتين الكاثولويكيتين بغوا ومانيلا، إلا أن الكثير من الرهبان فندوا هذه الإشاعات وقرروا إرسال مجموعة من القساوسة الشباب إلى اليابان للتحقق من الوضع. لكنهم وقعوا في قبضة الشوغون. ويركز إندو في كتابه على الرواية التاريخية حول تخيير هؤلاء القساوسة بين الموت أو الردة.
أما القصة الأخرى فتدور أحداثها في فترة قصيرة بعد قمع تمرد شيمابارا أماكوسا (1637–16381)، حيث دخل الكاهن اليسوعي سيباستياو رودريغاز سراً إلى اليابان على أمل العثور على مكان فيريرا. وبعد وصوله إلى قرية توموغي قابل بعض المسيحين السريين، إلا أنه تعرض للخيانة بعد أن وشى به الياباني المسيحي الجبان كيتشي جيرو. ليتعرض لأصعب موقف بحياته إذ كان عليه أن يختار بين الاستشهاد أو الردة.
رد فعل عنيف من الكنيسة الكاثوليكية
تم نشر رواية شينموكو من قبل دار النشر شينتشوشا عام 1966 وترجمت إلى الانجليزية عام 1969 تحت عنوان الصمت. ثم ترجمت إلى 13 لغة ونشرت في أكثر من 25 دولة، وتعتبر من اهم اعمال الأدب الياباني التي كتبت إبان الحرب.
تعرض كتاب الصمت لانتقادات شديدة خاصة من قبل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فيما يتعلق برواية دهس الكهنة للوحة فومي، وهو ما تسبب في حظر الرواية في ناغاساكي آنذاك.
وتخليداً لذكرى إندو شوساكو خصصت قاعة دائمة في متحف الآداب لعرض الرسائل الواردة من شخصيات بارزة من جميع أنحاء العالم بمناسبة إحياء مئوية ميلاده، ومن بين أبرز ما وقعت عليه عيناي الرسالة التي كتبها المخرج الأمريكي الشهير مارتن سكورسيزي والذي أخرج فيلم الصمت.
ووجب هنا الإشارة إلي خلفية المخرج سكورسيزي الدينية، حيث نشأ في عائلة محافظة في صقلية، وكان يحلم في صغره أن يصبح كاهناً، لذلك يأخذ الدين حيزاً كبيراً في أعماله السينمائية. لذلك أثرت رواية الصمت فيه بشكل كبير مما جعله يعقد العزم على تحويلها إلى عمل سينمائي في أواخر الثمانينات، وكلل مجهوده الذي يرى فيه وفاءً لإندو وإكمالاً لرسالته بعد ثلاثة عقود من خلال إطلاق فيلمه الشهير الصمت عام 2016.
تأملات مع غروب الشمس في البحر
زيارتي للمتحف جعلتني أفقد الإحساس بمرور الوقت، ورغم إغلاق المتحف أبوابه لم أرد المغادرة قبل رؤية المساحة المخصصة للتأمل التابعة للمتحف والتي أطلق عليها اسم باللغة الفرنسية يحمل معنى ”سعدت بلقائك“. فبمجرد دخولك هذا الركن ستجد نفسك أمام إطلالة خيالية تسبح فيها إلى اللامنتهى وأنت تنظر إلى المحيط عبر النوافذ الكبيرة.
ويذكر أنه قد تم افتتاح هذا المتحف في مايو/ أيار 2000 تخليداً لذكرى هذا الأديب، ويُعرض فيه الممتلكات المادية الخاصة والمفضلة لدى إندو شوساك، بالإضافة إلى مخطوطات أصلية ومجموعة من كتبه.
اكتشفت أيضاً أن إندو كان يولي اهتماما كبيراً للوحة ساتومي، بكل ما تحمله من تاريخ وقصص فريدة. وهذا ما جعله لا يفوت أي مناسبة للتطرق إلى سيرتها حتى بعد نشر روايته الصمت، فقد كان يصفها بأنها كانت إشارة من الرب اصطفاه ليتعمق في أسرارها ويكشف ما تخفيه للعلن.
كما كان إندو أيضاً مسحوراً بمنظر غروب الشمس بذلك المكان الذي طالما جلس فيه للتفكير في روايته. واليوم زوار المتحف بإمكانهم عيش نفس اللحظات والاستمتاع بالمناظر الخلابة من خلال الجلوس على الكراسي المريحة في الركن الذي تطل نوافذه الضخمة على المحيط.
فصفاء السماء في ذلك المساء منحني فرصة عظيمة للاستمتاع بكل لحظة من غروب الشمس، توشح السماء بتلك الألوان الذهبية الساحرة جعلني أفكر في جمال هذا الغروب الذي لم يتغير منذ 400 عاماً، وتساءلت عما كان يفكر به كل من فيريرا ورودريغز وكل مسيحي سوتومي السريين، وما كانت فحوى صلواتهم عند كل غروب شمس.